في ليلة عيد الأم، يسهر جارنا بياع الورد لنص الليل، ويقوم في الفجر، يرص باقات ورد تقليدية على الرصيف لزبائن المواسم المستعجلين، وأغلبهم رجال يخطفون الواجب المقدس لماما دون تذوق ولا فصال.. ويغلف بالسيلوفان باقات اقتصادية من وردتين بلدي لطالبات المدارس.. لكن يستعد لزبوناته، بأنواع خاصة من زهور أبدعها الخالق بتمهل، ثم نفخ فيها من روحه.. الزهرة الواحدة تجلو النفس، ولا تفتح من دفاتر الذكريات إلا ما يغسل أرواح الأم والأبناء، لتصفوا مشاعر الرضا ويعم الابتهاج وتتضاعف المحبة.
اعتدت في ليالي عيد الأم فتح نوافذي لموجات رحيق أزهار تتشابك مع شقاوة نسمات الليل، أستنشقها للعمق كمخدر منعش، واستعد نفسيا لمواجهة مكبرات صوت فايزة أحمد في الصباح، تناجي ست الحبايب فتهل على الوجود وجوه أمهات رحلن بهدوء مع زمانهن الطيب.
لكن بالأمس كان الرصيف خاليا صامتا، لا ورد بلدي متباه، ولا قرنفل صيني خجول!! والمحل مظلم بأوامر الأمن والسلامة.. انحبست الزهور مثل الأمهات خلف النوافذ!!
أشرق الفجر والشوارع شبه خالية، طال الانتظار حتى تأكد غياب طالبات المدارس، ومر الصباح باهتا لا روح ولا مرح! واحتلت نشرة كورونا مساحة ست الحبايب! فحبس الكون أنفاسه.
سرق الفيروس فرحة اللمة وأرباح التجار.. لكنه أدهشنا وسرق الغفلة، حبسنا وأجبرنا على التأمل والغربلة وإعادة تقييم علاقات ومشاعر وأولويات.. وفتح أبواب حساب النفس، للفرد وللدولة.. وكأن الخطر كان حتميا لاقتحام طريق الأمان وتعديل المسارات.
مثلا وزارة التعليم تجاسرت مُجبرة وأقرت التعليم عن بعد، وبدأت التجربة العملية فورا، فتم تحديث التعليم، واغلاق سناتر الدروس الخصوصية، وهو حلم تصورناه مستحيلا!! الشركات خفضت أسعار النت، الدولة أسقطت ديون المتعثرين القديمة، وأجلت دفع القروض والضرائب، فأظهرت تضامنا واجبا مع شعب أنهكته التضحيات، تضامنا يعيد ثقة الشعب بالحكومة، ويحي الأمل في بلوغ الشفافية وتطهير منابع الفساد.
الشوارع تنفست، فانخفض معدل التلوث الذي غير أخلاق المناخ ولخبط ملامحه، وهدد بكوارث.. الأفراح والجنازات عادت لطبيعتها "حالة خاصة"!!
والأهم هو استعادة روح "البيت".. تحررت المشاعر من الضغوط، هدأ الغضب، انسحب التربص وتوارت الذات خلف رُعب المستجدات.. أجبرنا الفيروس غير المرئي أن نسمع، ونبصر، ونميز، ونغربل، ونعيد توازن أنفسنا أولا.. انسحبت "الأنا"، فانبثقت مشاعر التراحم، لأن الموت مُطلق الأسر، طايح يُهدد ويٌنفذ!!
عدنا نتعرف على أنفسنا ونشحنها بالمحبة.. صحيح توقفنا مجبرين، وصحيح بياع الورد بات حزينا، وهدايا عيد الأم وصلت من ع الباب، والموبايلات سرقت الأحضان.. لكن الأكيد أن يوم عيد الأم القادم كل محلات الزهور ستفتح تاني من بالليل.
-------------------------
بقلم: منى ثابت